تأملات تربوية


قصة الخضر مع موسى عليهما السلام

بدأت حكاية موسى عليه السلام مع الخضر عليهما السلام ، حينما كان عليه الصلاة والسلام يخطب يوماً في بني إسرائيل، فقام أحدهم سائلاً: هل على وجه الأرض أعلم منك؟ فقال موسى: لا، اتكاء على ظنه أنه لا أحد أعلم منه، فعتب الله عليه في ذلك، لماذا لم يكل العلم إلى الله، وقال له: إنَّ لي عبداً أعلم منك وإنَّه في مجمع البحرين، وذكر له أن علامة مكانه هي فقد الحوت، فأخذ حوتاً معه في مِكْتَل وسار هو وفتاه يوشع بن نون، وحكت لنا سورة الكهف كيف التقى مع العبد الصالح الخضر، إذ بدأت الحكاية في القرآن الكريم بعزم موسى عليه السلام على الرحلة إلى مَجْمع البحرين في طلب العلم ، كما قال تعالى : " وَإذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ".
ثم تتابعتْ الأحداث حيث نسيا الحوت وواصلا طريقهما، ثم تنبها لنسيانه فعادا، ولقي موسى عليه السلام الخضر عند مجمع البحرين، والخضر (و القول بنبوته قوي ) عبد صالح وهبه الله نعمة عظيمة من العلم وفضلاً كبيراً: "فوَجَدَا عبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً". وتستمر القصة حين يعرض موسى عليه السلام على الخضر مرافقته لطلب العلم، والشرط بينهما، وما حصل أثناء هذه الرحلة من أحداث، في تسلسل قرآني جميل: " قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)".
ثم انطلقا، وحصلت المواقف التي لم يصبر موسى عليها، وكان الختام حين افترقا، ليقدم المعلم للمتعلم تفسيراً لكل ما حصل، في دروس عظيمة ظلت خالدةً تتلى: " قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا". ثم بدأ يشرح له: " أمّا السفينة " ! .

التأملات:
  • العجب بالعلم مكمن الخطر. فعلى الإنسان ألاّ يعجب بعلمه أو بظنّ بنفسه وصول المنتهى. ويظهر ذلك في معاتبة الله تعالى لموسى عليه السلام بعد أن سئل عن أعلم الناس فنسب ذلك إلى نفسه، وهو درس لمن وراءه، أن لا يرى في نفسه إعجاباً بعلمه أو فهمه أو تميزه، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وما أوتي الإنسان من العلم إلا قليلاً حتى لو كثر.
  • تُلحظ مسألة حب الاستطلاع واضحة جليّة، وتتمثل في ذهاب موسى عليه السلام وتساؤله عن الرجل الأعلم منه، لا لمجرد الرؤية، بل قرن ذلك بنية صحيحة وهي التعلم منه.
  • الحرص على التعلم محمدة مهما بلغ شأن الإنسان العلمي وشأنه المعرفي، وهذا هو نهج الأنبياء ومن تبعهم من الصالحين والعلماء، فالعلم ميراث النبوة، ورفعة الشأن، وصلاح الأسس، حتى لو استغرق الأمر من الإنسان زمناً طويلا يسعى به لتحقيق مرامه، ونيل أهدافه. ويظهر ذلك في قوله تعالى: ( أو أمضي حقبا ).
 
  • يتجلى الأدب الجميل .. أدب المتعلم مع المعلم: ( على أن تعلّمني ). وفيه أيضاً فائدة لطيفة، فالمتعلم له أن يبيّن حاله التي سيكون عليها مع معلمه، لينال رضاه عليه، وإقباله لتعليمه. ورغم أنّ المتعلم هنا أرفع قدراً بحكم النبوة والرسالة ( باعتبار نبوة الخضر عليه السلام ) ، إلا أنه يقدم عرضاً للمعلم كي تطيب نفسه بصحبته بشيئين:
أ‌.        (ستجدني إن شاء الله صابراً ). أي صبر على التعلم مع تعليقه الصبر بالمشيئة.
ب‌.     ( لا أعصي لك أمراً ). وفيه تمام الامتثال والطاعة.

  • على المعلم أن ينصح تلميذه غاية النصح، بتبيين حال العلم حتى لا يُدخله فيما لا يطيقه من العلم: ( قَالَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً). مع تبيين السبب فيما يرده عنه أو يمنعه منه. وذلك في تبيين الخضر لموسى عليهما السلام: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً).
  • من الأدب التربوي أيضاً ألاّ يتعجل التلميذ بسؤال معلمه حتى ينهي حديثه، فربما عرض الجواب في ثنايا الحديث، وذلك يؤخذ من قوله: (فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً )
  • يُتعلم من القصة المبادرة إلى الإنكار في حال وقوع المنكر، فرغم أنّ موسى عليه السلام قد شرط للخضر ألاّ يسأله، إلا أنه أنكر عليه ما رأى ظاهره المنكر، وقد أنكر ناسياً الشرط في البداية حين خرق السفينة، إلا أنه لم يكن قد نسيه حين قتل الغلام، لكون المنكر عظيماً في نظره. (أخرقتها لتغرق أهلها) ، ( لقد قتَلتَ نفساً زكيّةً بغيرٍ نَفس).


  • للمعلم العتاب حين يخطئ تلميذه أو يجاوز: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ لن تستطيعَ معيَ صبراً). وعلى المتعلم الاعتذار: (قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً).
  • يجوز إتلاف بعض الشيء لإصلاح باقيه، أليست قاعدة عظيمة من قوله تعالى: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا).
  • صلاح الأب ممتد الأثر ودائم النفع، إذ في الآية دعوة لأن يبدأ الآباء بتربية أنفسهم قبل تربية أبناءهم، فستكون الثمار يانعة وباقية. (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً). حتى قال بعض المفسرين أنه الأب السابع للغلامين.
 

تأملات تربوية في سورة الزخرف

سورة الزخرف في الجزء الخامس والعشرين ، وترتيبها في القرآن الثالثة ُوالأربعون . آياتها تسع وثمانون ، قبلها ( الشورى) وبعدها ( الدخان ) . واكتسبت اسمها الذي خصها الله تعالى به منذ الأزل من الآية الخامسة والثلاثين المتابعة لمعنى الآيتين الثالثة والثلاثين والرابعة والثلاثين في قوله تعالى " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ........ وزخرفاً وإنْ كل ذلك لمّا متاع الحياة الدنيا "
أورد القرطبي في معنى الزخرف : " الذهب " (وَزُخْرُفًا " أَيْ وَذَهَبًا قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وغيره . ثُمَّ بيّن تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عنده سبحانه ، فعجّل بحسنات الكافرين في الدنيا من مأكل ومشرب وملبس ليوافوا الآخرة وليس لهم عنده تبارك وتعالى حسنة يجزيهم بها كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيث الصَّحِيح " لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا تَزِن عِنْد اللَّه جَنَاح بَعُوضَة مَا سَقَى مِنْهَا كَافِرًا شَرْبَة مَاء " وفي رواية الطبرانيّ يقول النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَوْ عَدَلَتْ الدُّنْيَا عِنْد اللَّه جَنَاح بَعُوضَة مَا أَعْطَى كَافِرًا مِنْهَا شَيْئًا " وأكد ذلك سبحانه حين قال : " وَإِنْ كُلّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا " ثُمَّ صرّح سبحانه أنّ ثواب الآخرة العظيم للمؤمنين الأتقياء فقط ، فقال : " وَالآخِرَة عِنْد رَبّك لِلْمُتَّقِينَ " فالثواب لَهُمْ خَاصَّة لا يُشَارِكهُمْ فِيه أَحَد غَيْرهمْ . ولهذا نفهم قول عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين صَعِدَ إِلَيهِ فِي الْمُشْرَبَة لَمَّا آلَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ فَرَآهُ عَلَى رِمَال حَصِير قَدْ أَثَّرَ بِجَنْبِهِ فَابْتَدَرَتْ عَيْنَاهُ بِالْبُكَاءِ وَقَالَ يَا رَسُول اللَّه هَذَا كِسْرَى وَقَيْصَر فِيمَا هُمَا فِيهِ – من النعيم - وَأَنْتَ صَفْوَة اللَّه مِنْ خَلْقه وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ وَقَالَ " أَوَ فِي شَكّ أَنتَ يَا اِبن الْخَطَّاب ؟ ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أُولَئِكَ قَوْم عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتهمْ فِي حَيَاتهمُ الدُّنْيَا " وَفِي رِوَايَة " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُون لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَة ؟ " وَفِي الصَّحِيح أَيْضًا وَغَيْرهمَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لا تَشْرَبُوا فِي آنِيَة الذَّهَب وَالْفِضَّة . وَلا تَأْكُلُوا فِي صِحَافهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَة " وَإِنَّمَا خَوَّلَهُمْ اللَّه تَعَالَى فِي الدُّنْيَا لِحَقَارَتِهَا .
والأساليب التربوية في هذه السورة المباركة كثيرة ورائعة نقف على ثمانية منها في هذا المقال الأول مستعينين بالله سبحانه ، فنقول :

1 ـ جذب الانتباه :
كي لا يضيع شيء مما يقال ، فلا نبدأ بالحديث قبل أن ينتبه الحاضرون فلا تفوتهم فكرة ولا جملة ، وأساليب التنبيه كثيرة كما مرّ معنا في التأملات السابقة ، نذكر منها السؤال الذي لا يحتاج جواباً ، وتثبيتَ النظرات في وجوه السامعين مع التحية والسلام ، الجملَ المفتاحية التي اعتاد الآخرون سماعها في بدء الحديث ، ،،، وهنا نجد الآية الأولى التي حملت حرفين تكرّرا " حـم " في سور سميناها " الحواميم " كما يجتمع في " حـم " أسلوب آخر هو التعظيم ، لما ورد أنها من أسماء الله الحسنى قالها بعض المفسرين .


2- أن تخاطب الآخرين بلغة يفهمونها وكلام مناسب لأفهامهم :
فمهمة الحديث الإعلام والإفهام وتقريب المراد والوصول إلى الإيمان به وتصديقه ثم العمل له والدعوة إليه . ولن يكون هذا إلا بمراعاة مقتضى الحال ، وهذه حقيقة البلاغة . وتقول الحكمة " خاطبوا الناس بما يفهمون " ، ولكل سنّ أسلوب خطاب ، ولكل مستوى أسلوب حديث ، فلا يُبسط الحديث ولا يُكرر مع الذكي فيملّ ، ولا يُجتزَأ مع البسيط فيُغلق عليه . والداعية الناجح من عرف كيف يخاطب الناس جميعاً فيجذبهم ويتفاعلون معه . يقول تعالى " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " لماذا أُرسل النبي بلسان قومه؟ " ليُبَيّن لهم " .

3- التعظيم والتوقير :
هذا ما وجدناه قبل قليل في الأسلوب الأول حين أشرنا إلى عظمة الحرفين " حـم " ونجد التعظيم كذلك في قوله تعالى " " وإنه في أم الكتاب لدينا لَعليٌّ حكيم " فقدم القرآنَ الكريمَ للسامع بطريقة فيها هيبة وتعظيم وتوقير ، فهو مثبت في اللوح المحفوظ عند رب العالمين ، فلا يتطرّق إليه الفساد والبطلان والتحريف والضياع ، ولا التغيير والتبديل ولا الاختلاف والتناقض ، وقد وصفه بالعلوّ والحكمة ، كيف لا وهو عند الله تعالى في أم الكتاب ؟! . وبهذا التعبير الواضح البيّن يقدمه للبشر قاطبة معظّماً مكرماً .


4- المتابعة وعدم اليأس :
إن من يؤمن بهدف كريم مفيد يعمل على إيصاله للناس ليستفيدوا منه ، فكيف لا يبذل جهده في ذلك وقد كُلـّف به ؟ والذي كلـّفه به رب العزة سبحانه ؟ هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى نجد من يزهد في أمر مُهِم ّ لجهله به ، فيضيعه عليه . وعلى المسلم الداعية أن يعمل جاهداً لتعريف هؤلاء الزاهدين بخطأ انصرافهم عن الخير وتضييعهم إياه ، وهناك ناحية ثالثة لا بد من توضيحها ، فالداعية حريص على الناس يريد لهم أن يعرفوا الحق فيلتزموه في الدنيا لينجوا في الآخرة من عذاب أليم . وليبين لهم أنه" أنذر فأعذر" فلا يعتذرون حين تقع الواقعة أنه لم يأتهم نذير ، ولم ينصحهم ناصح ، ولم يدلهم على الخير محب شفوق . كما أنه – أخيراً - لا ينبغي لأحد أن ييئس من الدعوة إلى الحق ولو كان المدعوّ مجافياً مجانباً لا يهتم ولا يكترث " أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أنْ كنتم قوماً مسرفين ؟ "

5- الحوار الهادف :
ويكون الحوار هادفاً حين يبدأ من المسلّمات ، ويتدرّج إلى غيرها ، فالكفار يعرفون أن الله تعالى خالق السموات والأرض وهو الذي ملأهما بالخير الذي يعيشه الناس وأن الله تعالى خلق في الأرض من كل شيء زوجين للتكاثر وخلق ما يستعمله الناس وما سخّره الله لهم وهم يقرون بذلك ، فينتقل الحوار إلى وجوب شكر المنعم وحده وعدم ظلم الله في وحدانيته وفي عبادتهم إياه ونرى هذا جليّاً في الآية التاسعة إلى الآية الرابعة عشرة ، وفي آيات بعدها متفرقة إلى آخر السورة لا تخفى على النبيه .


6– التفكير المنطقي :
الذي يؤكد القرآن فيه وهو يحاورهم على التفكير المنطقي الذي يقود صاحبه العاقل إلى الحق فيلتزمه ، مثال ذلك أن من بيده الأمر لا يرضى لنفسه الدونية ولا يترك لعباده الاستئثار بما يريدون فالكافر يجعل الملائكة إناثاً ويفتئتها بنات الله ، ويطلب في الوقت نفسه الذكور ويكره الإناث ، فإذا كان الإنسان يكره الإناث ويطلب الذكور – وهو العبد الضعيف – فلماذا يرضى الله لنفسه الإناث التي يمقتها العبد الضعيف؟ ولماذا يعبد الإنسان الملائكة وهم في ظنه إناث وهو يكره الإناث ؟ بل إن الله تعالى يؤكد أن الملائكة عباد الله ليسوا من جنس البشر ولا يتوالدون كتوالدهم ، وهم خلق آخر لا علاقة لهم بكل أوهام البشر وتهيؤاتهم . وهذا ما نجد بعضه في الآيات الخامسة عشرة إلى الآية العشرين ، وقد يشوب الحوار تهديد كما في قوله تعالى في عبادة الملائكة وتأنيثهم " ستُكتب شهادتهم ويُسألون " " ما لهم بذلك من علم إنْ هم إلا يَخرُصون " . وفي نقاش الكافرين فيما يعبدون لأنهم وجدوا آباءهم كذلك يفعلون دون التدبر والتفكر فيما يعبدون حتى نهاية الآية الخامسة والعشرين .. إن التفكير المنطقي يقود إلى فهم الحقيقة ومن ثَمّ يقود إلى الإيمان الصحيح بالحقيقة الثابتة ....

7- وجوب التفكر والتدبر :
الفرق بين الإنسان والحيوان أن للأول عقلاً وللثاني غريزة ، وأن الحر يفهم ويتدبر، والعبد يسبر وراء كل ناعق .
هذا سيدنا موسى يدعو قومه إلى توحيد الله سبحانه ، ويعلن أنه رسول الله إليهم ، فيؤمن به القلة ، ويسخر منه الهالك ذو الهوى ، فيأتيهم بالأدلة والبراهين ، فيزدادون بعداً وسفاهة ، فيأخذهم الله بشيء من العذاب – القمّل والضفادع والدم – لعلهم يرعوون ، فيراوغون ويسوّفون ، ويَسِمونه بالسحر والشعوذة ويتعالى فرعون مدّعياً الألوهية ، ويطالبه بحقير من الأدلة على رسالته
" فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)، " والبراهين الدامغة تترى من حوله دون أن يعقل، أو يفهم الغاوون حوله ، لقد أسلموه قيادهم فاستحكم فيهم، واستعلى عليهم ، ولو أنهم تدبروا الآيات والبراهين التي يعيشونها – ليل ونهار وشمس وقمر وماء وشجر وحياة وموت ....- لوصلوا إلى الحق الأبلج . ولكنّنهم استجابوا لكبيرهم فرعون وخافوا سلطانه وهيمنته فأطاعوه ، وسكنوا إليه . وتخلوا عن الهداية وغاصوا في لجج الفساد والهوى " فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ***1754; إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) " وما يطغى طاغية إلا بذل أتباعه وتخليهم عن آدميتهم ، وانغماسهم في الفساد والرذائل . فكانوا معه في وهدة الباطل وحمَأة الجهالة .
ولن ترى أمة قوية إلا إذا قالت للظالم يا ظالم ، وكان أفرادها بعضهم عوناً لبعض في السير على النهج القويم

8ـ يداك أوكتا وفوك نفخ :
من سار على درب تحمّل تبعته ، ومن طلب الهدى أعين عليه ومن أراد الغواية سُهّلت له . هذه قاعدة قرآنية نجدها في قوله تعالى :
" وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَ***1648;نِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) " ويعضّدها قوله تعالى في سورة الإسراء " مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى***1648; لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَ***1648;ئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلاً نُمِدُّ هَ***1648;ؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ***1754; وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) "
فمن طلب الدنيا أعطِي منها بما يقدره الله تعالى ، ومن طلب الآخرة وعمل لها أدركها ، والله يُمد الطرفين بما يطلبان . ومن َيتَعَامَ وَيَتَغَافَل وَيُعْرِض عن ذكر الله يوكل إلى شيطان رجيم يقوده إلى هلاكه ، ويستمر معه إلى النار ، فهو قرينه في الدارين كَقَوْلِهِ تَعَالَى " فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّه قُلُوبهمْ " وَكَقَوْلِهِ جَلَّ جلاله " وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْن أَيْدِيهمْ وَمَا خَلْفهمْ " . فإذا ما سقط في الهاوية تنبّه حيث لا يفيد التنبّه ، وندم حيث لا ينفع الندم " حَتَّى***1648; إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) " إنه رضي بصحبة الشيطان وسار على رأيه فاستحق صحبته في النار شاء أم أبى . فبئس القرين .

9- الاستكبار يمنع اتباع الحق :
واقرأ معي هذا الحوار القصير الذي يدل على العناد والاستكبار عن الحق والتمادي في الضلال الذي يقود إلى الهلاك :
" بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى***1648; أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى***1648; آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
وَكَذَ***1648;لِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى***1648; أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى***1648; آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى***1648; مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ***1750; قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ***1750; فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)"
فهم ينأَون عن الإيمان لما جاءهم حين يأبَون اتباع الحق ومخالفة كفر الآباء ، ويدّعون أنهم " مهتدون " و بهم " مقتدون " . والمترف - في كل زمان - يقود مَن دونـَه إلى الكفر والضلال وسوء الخاتمة ، " وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَ***1648;ذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) سورة " المؤمنون " فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرضْ إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتّبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين 116" سورة هود
" وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) " سور سبأ
" إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَ***1648;لِكَ مُتْرَفِينَ (45) سورة الواقعة
" سورة الإسراء
إن الترف مفسدة أيّ مفسدة ، والغنى – إلا من رحم ربُّك - قد يقود إلى الطغيان والجبروت ، ألم يقل الله تعالى مقرراً هذه السمة " إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى " سورة العلق .
فهؤلاء المترفون لا يرومون البعد عن ضلال آبائهم ، فإذا ما نبههم الرسول الكريم إلى أن آباءهم كانوا على ضلال وأنه يدعوهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم ردّوا بصلف واستعلاء : إنهم سادرون في غيهم ولن يبرحوا ما كان عليه آباؤهم . فكان في تدميرهم هلاكُهم . وهذا مصير كل متكبر عنيد .